سورة الزخرف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزخرف)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {حم}؛ يا محمد، {و} حق {الكتابِ المبين} أي: المبين لِما أنزل عليهم، لكونه بلغتهم، وعلى أساليبهم، أو: الموضّح لطريق الهدى من الضلالة، أو: المبيّن لكل ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة. وجواب القسم: {إِنا جعلناه قرآناً عربياً} بلغتكم {لعلكم تعقلون} أي: جعلنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً لكي تفهموه، وتُحيطوا بما فيه من النظم الرائق، والمعنى الفائق، وتقفوا على ما تضمّنه من الشواهد القاطعة بخروجه عن طوق البشر، وتعرفوا حق النعمة في ذلك، فتنقطع أعذاركم بالكلية.
{وإِنه في أُمّ الكتاب لدْينَا} أي: وإن القرآن العظيم مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، دليله قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظِ} [البروج: 21، 22]. وسُمِّي أمّ الكتاب؛ لأنه أصل الكتب السماوية، منه تُنقل وتُنسخ. وقوله تعالى: {لَعَلِيٌّ} خبر {إن} أي: إنه رفيع القدر بين الكتب، شريف المنزلة؛ لكونه معجزاً من بينها. أو: في أعلى طبقات البلاغة. {حيكمٌ}؛ ذو حكمة بالغة. أو: محكم، لا ينسخه كتاب.
وبعدما بيَّن علو شأنه، وبيَّن أنه أنزله بلغتهم؛ ليعلموه، ويؤمنوا به، ويعملوا بما فيه، عقَّبَ ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه، فقال: {أفَنَضرِِبُ عنكم الذِكرَ} أي: ننحيه ونُبعده. والضرب: مجاز، من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض. وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجيه الذكر إليهم، وملازمته لهم، كأنه يتهافت عليهم ثم يضربه عنهم. والفاء: للعطف على محذوف؛ أي: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر {صَفْحاً} أي: إعراضاً، مصدر، من: صفَح عنه: إذا أعرض، منصوب على أنه مفعول له، على معنى: أفنعزل عنكم إنزال القرآن، وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم. ويجوز أن يكون مصدراً مؤكداً لما دلّ عليه نضرب؛ لأنه في معنى الصفح، كأنه قيل: أفنفصح صفحاً {أن كنتم قوماً مسرفين}، أي: لأن كنتم منهمكين في الإسراف، مصرّين عليه؛ لأن حالكم اقتضى تخيلتكم وشأنكم، حتى تموتوا على الكفر والضلالة، فتبقوا في العذاب الخالد، لكن بسعة رحمتنا لا نفعل ذلك، بل نهديكم إلى الحق، بإرسال الرسول الأمين، وإنزال الكتاب المبين.
ومَن قرأ بالكسر فشرط حُذف جوابه؛ لدلالة ما قبله عليه، وهو من الشرط الذي يصدرُ عن الجازم بصحة الأمر، كما يقول الأجير: إن كنتُ عملتُ لك فوفّني حقي، وهو عالم بذلك. وعبّر ب {أن}؛ إخراجاً للمحقق مخرج المشكوك؛ لاستهجالهم، كأن الإسراف من حقه ألا يقع.
الإشارة: {حم} أي: حببناك، ومجدناك، وملكناك، وحق الكتاب المبين. ثم استأنف فقال: {إنا جعلناه} أي: ما شرفناك به أنت وقومك {قرآناً عربياً} يفهمه مَن يسمعه {لعلكم تعقلون} عن الله، فتشكروا نعمه. {وإنه في أُمّ الكتاب} أي: وإن الذي شرفناكم به في أُمّ الكتاب.
قال الرتجبي: أي: إنه صفتي، كان في ذاته منزهاً عن النقائص والافتراق- أي: منزهاً عن الحروف والأصوات، التي من شأنها التغيُّر، وعن التقديم والتأخير، وهو افتراق كلماته- إذ هما من صفات الحدث. وأُم الكتاب عبارة عن ذاته القديم، لأنها أصل جميع الصفات، {لَدَيْنَا} معناه: ما ذكرنا أنه في أُمّ الكتاب عندنا {لعلِيّ} علا عن أن يدركه أحدٌ بالحقيقة، ممتنع من انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، {حكيم} محكِم مبين. وقال جعفر: عَلِيّ عن درك العباد وتوهمهم، حكيم فيما دبّر وأنشأ وقدّر. اهـ. فانظره، فإنَّ هذه من صفات الحق، والكلام في أوصاف القرآن.
وقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عنكم الذِكْرَ صفحاً} الآية، قال القشيري: وفي هذه إشارة لطيفة، وهو: ألا يُقطع الكلامُ عمّن تمادى في عصيانه، وأسرف في أكثر شأنه، فأحرى أن مَنْ لم يُقَصّرْ في إيمانه، أو تَلَطَّخَ بعصيانه، ولم يَدْخُل خَلَلٌ في عرفانه، فإنه لا يَمْنَعَ عنه رؤية لطائف غفرانه. اهـ. يعني: أن الحق جلّ جلاله لم يقطع كلامه عمن تمادى في ضلاله، فكيف يقطع إحسانه عمّن تمسك بإيمانه، ولو أكثر من عصيانه. وكذلك أهل النسبة التصوفية، إذا اعوجّ أخوهم، لا يقطعون عنه كلامهم وإحسانهم، بل يلاطفونه، حتى يرجع، وهذا مذهب الجمهور.


يقول الحق جلّ جلاله: {وكم أرسلنا} أي: كثيراً أرسلنا قبلك {من نبيٍّ في الأولين}؛ في الأمم الماضية، فكذَّبوهم واستهزؤوا بهم. {وما يأتيهم من نبيٍّ إلا كانوا به يستهزئون}، فاصبر كما صبروا. ويحتمل أن يكون تقريراً لِمَا قبله؛ لبيان أن إسراف الأمم السابقة لم يمنعه تعالى من إرسال الرسل إليهم، وكونها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم أظهر. {فأهلكنا أشدَّ منهم بَطْشاً} أي: فأهلكنا مِن الأمم السالفة مَن كان أكثر منهم طغياناً وإسرافاً، {ومضى مَثَلُ الأولين} أي: سلف في القرآن غير مرة ذكر قصة الأولين، وهي عِدةٌ له صلى الله عليه وسلم، ووعيد لقومه، بطريق الأولوية. فمثل ما جرى على الأولين يجري على هؤلاء؛ لاشتراكهم في الوصف. وظاهر الآية: أن النبي والرسول واحد، والمشهور: أن النبي أعم، فكل رسول نبي، ولا عكس، فالنبي مقصور في الحُكم على نفسه، والرسول نبيّ مكلّف بالتبليغ.
الإشارة: ما سُليت به الأنبياء والسل يُسلَى به الأولياء؛ لأنهم خلفاؤهم، فكل مَن أُوذي واستُهزئ به يتذكر ما جرى على مَن كان أفضل منه من الأنبياء وأكابر الأولياء، فيخف عليه الأذى. وبالله التوفيق.


يقول الحق جلّ جلاله: {ولئن سألتهم} أي: المشركين {مَنْ خلق السماواتِ والأرضَ ليقولُنَّ خلقهن العزيزُ العليمُ} أي: ينسبون خلقها إلى مَن هذا وصفه في نفس الأمر؛ لا أنهم يُعبِّرون عنه بهذا العنوان. واختار هذن الوصفين للإيذان بانفراده بالإبداع والاختراع والتدبير؛ لأن العزة تُؤذن بالغلبة والاقتدار، والعلم يؤذن بالتدبُّر والاختيار، وليُرتب عليه ما ينسابه من الأوصاف، وهو قوله: {الذي جعل لكم الأرض مهاداً} أي: موضع قرار كالمهد المعلق في الهواء، {وجعل لكم فيها سُبُلاً} تسلكونها في أسفاركم {لعلكم تهتدون} أي: لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم، أو: بالتدبُّر فيها إلى توحيد ربكم، الذي هو المقصد الأصلي.
{والذي نَزَّلَ من السماء ماء بِقَدَرِ}؛ بمقدار يسلم معه العباد، وتحتاج إليه البلاد، على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكَم والمصالح، {فأنشرنا به} أي: أحيينا بذلك الماء {بلدةً ميْتاً} خالياً عنه الماء والنبات. وقُرئ: {ميِّتاً} بالتشديد. وتذكيره؛ لأن البلدة بمعنى البلد. والالتفات إلى نون العظمة؛ لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظيم خطره، {كذلك تُخرجون} أي: مثل ذلك الإحياء، الذي هو في الحقيقة: إخراج النبات من الأرض، تُخرجون من قبوركم أحياء. وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشاء، الذي هو إحياء الموتى، وعن إحيائهم بالإخراج؛ تفخيم لإن لشأن الإنبات، وتهوين لأمر البعث، لتقويم سَنَنِ الاستدلال، وتوضيح منهاج القياس.
وهذه الجُمل، من قوله {الذي جعل...} استئناف منه تعالى، وليست من مقول الكفار؛ لأنهم يُنكرون الإخراج من القبول، بل الآية حجة عليهم في إنكار البعث، وكذا قوله: {والذي خلق الأزواجَ كلها}، أي: أصناف المخلوقات بحذافيرها، على اختلاف أنواعها وألوانها. وقيل: الأزواج: ما كان مزدوجاً، كالذكر والأنثى، والفوق والتحت، والأبيض والأسود، والحلو والحامض، وقيل: كل ما ظهر من الغيب فهو مزدوج. والفرد هو الله. {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} أي: ما تركبونه، يقال: ركبوا في الفلك، وركبوا الأنعام، فَغُلِّبَ المتعدّي بغير واسطة؛ لقوته على المتعدي بواسطة، فقيل: تركبونه.
{لتستووا على ظهوره}: ولتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفُلك والأنعام، {ثم تذكروا نعمةَ ربكم إِذا استويتم عليه}؛ تذكروها بقلوبكم، معترفين بها بألسنتكم، مستعظمين لها، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم، {وتقولوا سبحانَ الذي سَخَّرَ لنا هذا} أي: ذلَّل لنا هذا المركوب، متعجبين من ذلك {وما كُنا له مُقْرِنينَ}؛ مطيقين. يقال: أقرن الشي: إذا أطاقه، وأصله: وجده قرينه؛ لأن الصعب لا يكون قريناً للضعيف إلا إذا ذلّله الله وسهّله، {وإِنَّا إِلى ربنا لمنقلبون} أي: راجعون. وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يذكر عند ركوبه مركب الدنيا، آخر مركبه منها، وهو: الجنازة؛ فيبني أموره في مسيره على تلك الملاحظة، حتى لا يخطر بباله شيء من زينة الدنيا، وملاهيها وأشغالها.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا وضع رجله في الركاب، قال: «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال: {الحمد لله الذي خسر لنا هذا...} إلى: {منقلبون}، ثم كبّر ثلاثاً وهلّل ثلاثاً، ثم قال: «اللهم اغفر لي..»، وحُكي أن قوماً ركبوا، وقالوا: {سبحان الذي سخّر لنا هذا...} الآية، وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هُزالاً، فقال: إني مقرن لهذه- أي مطيق- فسقط منها لوثبتها، واندقّت عنقه. وينبغي ألا يكون ركوبُ العاقل للشهرة والتلذُّذ، بل للاعتبار، فيحمد الله ويشكره على ما أولاه من نعمه، وسخَّر له من أنعامه.
الإشارة: قد اتفقت الملل كلها على وجود الصانع، إلا مَن عِبْرة به من الفلاسفة، وإنما كفر مَن كفر بالإشراك، أو: بوصف الحق على غير ما هو عليه، أو: بجحد الرسول. وقد تواطأت الأدلة العقلية والسمعية على وجود الحق وظهوره، بظهور آثار قدرته، والصفة لا تُفارق الموصوف، فدلّ بوجود أثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه، على وجود أوصافه، وبثبوت أوصافه على وجود ذاته. فأهل السلوك يكشف لهم أولاً عن وجود آثاره، ثم عن أسمائه، ثم صفاته، ثم عن شهود ذاته. وأهل الجذب يكشف لهم أولاً عن ذاته، ثم عن أوصافه، ثم عن أسمائه، ثم عن آثاره، فربما التقيا في الطريق، هذا في ترقيه، وهذا في تدليه، كما في الحِكَم.
وقوله تعالى: {الذي جعل لكم الأرض مهاداً...} إلخ، قال القشيري: كما جَعلها قَراراً لأشباحهم، جَعَلَ الأشباحَ قراراً لأرواحهم؛ فهي سُكَّانُ النفوس، كما أن الخَلْق سُكَّانُ الأرضِ، فإذا انتهت مدةُ كَوْنِ النفوسِ، حَكَمَ اللّهُ بخرابها... كذلك إذا فارقت الأرواحُ الأشباحَ بالكُلِّية، قضى الله بخرابها.
ثم قال في قوله: {فأنشرنا به بلدة ميتاً}؛ وكما يُحْيي الأرضَ بالمطَر يُحْيي القلوبَ بحُسن النَّظَر. والذي خلق من الأزواج أصنافَ الخَلْق، كذلك حبس عليكم الأحوالَ كلها، فمِنْ رغبةٍ في الخيرات، وخوفٍ يحملكم على تَرْكِ الزلاّت، ورجاءٍ يبعثكم على فعل الطاعات، طمعاً في المثوبات، وغير ذلك من فنون الصِّفات، وكما سَخَّرَ الأنعام، وأعظمَ المنَّة بذلك، سَخَّر للمؤمنين مركب التوفيق، بحْملهم عليه إلى بساط الطاعة، وسهَّل للمريدين مركبّ الإرادة، وحَمَلَهم عليه إلى عَرَصَات الجود، وفضاء الشهود، وسَهَّل للعارفين مركبَ الهِمّة، فأناخوا بالحضرة القدسية، وعند ذلك مَحَطُّ الكافة؛ ثم لا تخرق سرادقاتِ العزةِ هِمَّةُ مخلوقٍ، سواء كان ملَكاً مُقّرَّباً، أو نبيّاً مُرْسلاً، أو ولياً مُكَرَّماً. فعند سطواتِ العِزِّ يتلاشى كلُّ مخلوقٍ، ويقف وراءها كل مُحْدَثٍ مسبوق. اهـ. ببعض المعنى. وسرادقات العز: حجاب الكبرياء، فلا تحصل الإحاطة بكُنه الربوبية لأحدٍ من الخلق. ولهذا يبقى الترقي أبداً للعارفين، في هذه الدار، وفي تلك الدار، ولا يحصل على غاية أسرار الربوبية أحد، ولو بقي يترقى أبداً سرمداً. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6